الإنتاج على دفعات Lot كبيرة هو أمرٌ معتاد في التصنيع نظرا لما يبدو له من مميزات مثل تقليل عدد مرات التغيير من منتج لآخر، والاعتقاد بأن ذلك يقلل الأخطاء نتيجة لتكرار نفس العمل كثيرا، ولكن في نظام تويوتا الإنتاجي فإن الهدف هو الوصول إلى حجم دفعات صغيرة Small Lot Size. وقد تعرضنا لهذا الأمر عند استعراضنا لتنويع الإنتاج أو نموذج الإنتاج المتنوع Mixed Model Production لأن هذا يعني تصغير حجم كل دفعة إنتاج، فعلى سبيل المثال بدلا من أن ننتج 1000 قطعة من نفس المنتج فإننا سننتج 50 قطعة، ثم ننتج 100 من منتج آخر، ثم 80 من منتج ثالث وهكذا. هذا يعني أن دفعة الإنتاج قد تقلَّصَت من ألف إلى 100 تقريبا. وقد ناقشنا الحالة المثلى لدفعة الإنتاج الصغيرة جدا عند مناقشتنا للتدفق ذي القطعة الواحدة.
ونظام تويوتا الإنتاجي لم يتم اختراعه من فراغ وإنما تطور هذا النظام عبر عشرات السنين ليحقق الهدف المنشود من تقليل الفاقد والقدرة على المنافسة والنجاح. ولذلك فإن عناصره مترابطة ويُعَضِّد بعضها بعضا، فتنويع الإنتاج يستدعي تصغير حجم دفعة الإنتاج، وهذا يستدعي تقصير وقت الإعداد، وهو ما يحتاج حلقات ضبط الجودة ويؤدي إلى تقليل المخزون من المنتجات نصف المصنعة، وهو ما يتطلب خط إنتاج يُعتمد عليه وهو ما يتطلب الصيانة الإنتاجية الشاملة، كما يتطلب جودة عالية وهو ما يأتي من خلال حل المشاكل من جذورها ومن حلقات ضبط الجودة، وكل هذا يتطلب عمالة مدربة وجو عمل يحترم العاملين ويشجعهم على العمل بروح الفريق.
نناقش في هذه المقالة حجم دفعة الإنتاج الأمثل ونقارن بين الفكر التقليدي ونظام تويوتا الإنتاجي.
حجم الدفعة (الطلبية) الاقتصادي:
كتبتُ من قبل عدة مقالات حول حجم الطلبية الاقتصادي Economic Order Quantity وهي طريقة حسابية لتقليل التكلفة الكلية للطلبيات أو لدفعات الإنتاج. ونفس الطريقة تستخدم لحساب حجم دفعة الإنتاج المثلى كما تستخدم لحساب حجم طلبية الشراء المثلى. والفكرة الأساسية هي أنك لو طلبت كمية كبيرة (حجم الطلبية) كل مرة فإنك ستضطر لتخزين جزء كبير من هذه الكمية مدة طويلة لأن الكمية تفوق احتباجاتك الحالية، ولو طلبت كمية صغيرة كل مرة فإن ستطلب عدد كثيرا من المرات وهو ما يعني تحملك لبعض التكاليف الثابتة اللازمة لأي طلب. ونفس الأمر ينطبق على الإنتاج فلو أنتجت كمية كبيرة جدا من المنتجات نصف المصنعة أو المنتج النهائي فإنها ستبقى لديك كثيرا، ولو أنتجت على دفعات صغيرة فستتحمل تكلفة إيقاف خط الإنتاج كثيرا للتغيير من منتج لآخر. حجم الطلبية الاقتصادي يوازن بين التكلفتين ويحاول تحديد حجم الطلبية الذي يحقق أقل تكلفة كلية وهي تكلفة التخزين + تكلفة التوريد (أو التصنيع).
الشكل التالي يبين ارتفاع تكلفة المخزون كلما ازداد حجم الطلبية أو دفعة الإنتاج، كما يبين ارتفاع تكلفة التوريد أو التصنيع كلما قلّ حجم الطلبية أو دفعة الإنتاج. والنظرية تقول أن هناك حجم أمثل وهو الذي يحقق أقل تكلفة كلية وهي المبينة باللون الأحمر، فحجم الإنتاج المناظر لأقل تكلفة كلية هو الحجم الأمثل وهو في هذا الشكل حوالي 15 (حجم الطلبية المناظر لأدنى نقطة في منحنى التكلفة الكلية المبين باللون الأحمر).
النظرية شهيرة جدا وتستخدم كثيرا وهي متَّفِقة مع المنطق البسيط الذي يقول: ليس من المعقول أن تطلب كمية كبيرة من المواد الخام أو مستلزمات الإنتاج تساوي استهلاك خمس سنين، وليس من المنطقي أن تطلب المواد الخام كل يوم ولكن لِنطلب ما يوازي استهلاك عام أو ستة أشهر، وكذلك ليس من المعقول أن نُعيِّر من منتج لآخر كل يوم أو بضع ساعات وليس معقولا أن ننتج نفس المنتج لستة أشهر ثم ننتج المنتج الآخر لستة أشهر، ولكن لِننتج المنتج الأول لمدة شهر والآخر لمدة شهر. بهذا المنطق نكون قد وازنَّا بين تكلفة الاحتفاظ بالمخزون وتكلفة طلبات الشراء لأن كل طلب يحتاج دراسة ومراسلات، وكذلك كل دفعة إنتاج تعني تكلفة توقف خط الإنتاج للتغيير من منتج لآخر.
والنظرية تعطينا معادلة بسيطة لحساب حجم الطلبية الاقتصادي أو حجم دفعة الإنتاج الاقتصادية كالتالي:
فالمعادلة تحتوي ثلاثة متغيرات: حجم الطلب السنوي على المادة أو المنتج، تكلفة الطلبية الواحدة، تكلفة تخزين الوحدة من المنتج أو المادة الخام. وهذه المتغيرات يمكن حسابها. وتفاصيل هذه الحسابات يمكن الرجوع إليها في مقالة حجم الطلبية الاقتصادي.
حجم الطلبية الاقتصادي من منظور نظام تويوتا الإنتاجي:
لعل القارئ الكريم أدرك أن تنويع الإنتاج وتصغير حجم الطلبيات أو دفعات الإنتاج يصطدم تماما مع هذه النظرية ومع المنطق البسيط الذي عرضناه. لا يمكن أن نُبَدِّل من منتج لآخر كل يوم لأن هذا يعني توقف خط الإنتاج كثيرا لإجراء عمليات الضبط وتغيير بعض الأجزاء الكبيرة، ولا يمكن أن نطلب كميات صغيرة من المُورِّد كل مرة لأن هذا يعني تحمل التكلفة الثايتة لكل طلبية حتى ولو كانت قطعة واحدة. وبناء على هذا التحليل فإن نظام تويوتا الإنتاجي هو نظام خيالي غير قابل للتطبيق بل هو نظام خاطئ يتعارض مع أبسط مبادئ التفكير السليم.
هذا التحليل ستُواجَهُ به عندما تعرض فكرة تصغير حجم دفعة الإنتاج أو تنويع الإنتاج. ولكن هل نظام تويوتا الإنتاجي نظام فاشل لم ينتبه للتكلفة الباهظة لتصغير حجم دفعة الإنتاج أو طلبية الشراء؟
في الحقيقة فإن نظام تويوتا الإنتاجي ينظر إلى الأمر من عدة زوايا أخرى:
1- تكلفة تصغير حجم دفعة الإنتاج أو الطلبية ليست أمرا ثابتا:
نظام تويوتا الإنتاجي قلَبَ المسألة رأسا على عقب فبدلا من أن نحسِب حجم الطلبية الاقتصادي بدلالة تكلفة الطلبية أو تكلفة تغيير خط الإنتاج من منتج لآخر، فإننا نقول نريد أن يكون حجم الطلبية صغيرا أو حجم دفعة الإنتاج صغيرا ثم نحسب تكلفة الطلبية أو تكلفة التغيير من منتج لآخر التي تجعل هذا الحجم الصغير هو الحجم الأمثل. أي أننا نعتبر تكلفة الطلبية وتكلفة التغيير من منتج لآخر مجهولا وليس معلوما، أو بمعنى آخر هو أمرٌ يمكننا تغييره. فنظام تويوتا الإنتاجي يرفض فكرة المخزون الكبير الذي له مشاكل كثيرة بخلاف تكلفة التخزين ولذلك فهو يهدف لتصغير حجم الطلبية وحجم دفعة الإنتاج، والسبيل الطبيعي لذلك هو تقليل زمن التغيير من منتج لآخر عند الإنتاج وتقليل تكلفة الطلبية الواحدة عند الشراء.
كيف يتم تقليل زمن التغيير من منتج ﻵخر؟ من خلال تبسيط خطوات التغيير والضبط، ومن خلال الإعداد الجيد للأدوات، ومن خلال إجراء بعض العمليات التي يمكن إجراءها أثناء عمل الماكينة، ومن خلال تعديل التصميم لتقليل عمليات الضبط والتربيط، ومن خلال خطوات العمل القياسي، ومن خلال خلايا التصنيع التي تقوم بتصنيع عائلة متشابهة من المنتجات، ومن خلال تصميم أجزاء تتشابه إلى حد ما بحيث لا تستلزم دائما عمليات التغيير للاسطمبات. هذه الامور تجدها بالتفصيل في مقالة تخفيض وقت الإعداد.
أما تقليل تكلفة الطلبية الواحدة فيتم عن طريق تقليل عدد الموردين كثيرا بحيث يتم التعاقد مع المورد على كميات سنوية يتم توريدها على دفعات صغيرة كل عدة أيام أو كل يوم أو عند الحاجة. فتصغير حجم الطلبية لا يعني بالضرورة أن نستحدث تعاقدا جديدا كل مرة وإنما التعاقد مستمر وإنما التوريد والسداد على دفعات صغيرة جدا حسب الحاجة. ويستلزم ذلك اختيار موردين على مستوى عالٍ من الكفاءة أو رفع كفاءة الموردين بحيث يكون لدى المُورِّد القدرة على توريد منتجات أو مواد بجودة عالية باستمرار والقدرة على توريد هذه الكميات الصغيرة عند الحاجة. وقد يكون المُورد مرتبطا معنا بشبكة معلومات لكي يستطيع متابعة المخزون من المواد التي يوردها حتى يستطيع أن يبدأ التصنيع عند بلوغ المخزون لقيمة محددة، وفي هذه الحالة فإن أمر التوريد قد يكون إلكترونيا عن طريق نظام المعلومات.
دعنا ننظر الآن إلى منحنيات التكلفة لمثال ما في الحالة التقليدية – الشكل أدناه – وستلاحظ ان حجم الطلبية الاقتصادي هو حوالي 30 وهو المناظر لأقل تكلفة كلية أي أدنى نقطة في المنحنى باللون الأحمر. بالفكر التقليدي يمكن أن نقول أنه من الخطأ أن يكون حجم الطلبية أو دفعة الإنتاج في هذه الحالة أقل من 30 لأن التكلفة ستزيد بشكل ملحوظ. وقبل أن نرى المنحنيات في حالة نظام تويوتا الإنتاجي دعني أهمس في أذتك قائلا: إنه في الفكر التقليدي ستجد أن دفعة الإنتاج لا تساوي 30 بل 300 أو ألف، لأنه لم يتم استخدام مثل هذه المعادلة بل جرت العادة على الإحساس بأن دفعة الإنتاج كلما زادت كلما كان أفضل لأن تكلفة التخزين لا تحظى بالاهتمام الكافي.
ماذا لو استطعنا تقليل تكلفة الطلبية إلى الربع (أو تقليل زمن الإعداد إلى الربع)؟ إن المنحنيات تغيرت إلى الشكل أدناه وأصبح الحجم الاقتصادي هو حوالي 15 وعلاوة على ذلك فإن التكلفة الكلية لا تزيد بشكل ملحوظ ما بين 10 و 15، بل إن التكلفة الكلية تزيد كثيرا إذا زاد حجم الطلبية عن 15. لقد انعكس الأمر وأصبحت زيادة حجم دفعة الإنتاج (أو الطلبية) هي المشكلة الحقيقية التي يجب أن نتجنبها.
ماذا لو استطعنا تقليل تكلفة الطلبية إلى عشر التكلفة الأولى (أو تقليل زمن الإعداد إلى العشر)؟ إن الحجم الاقتصادي أصبح 7 فقط، ولا يوجد فارق ملحوظ في التكلفة بين حجم 5 و 7.
إن تقليل تكلفة الطلبية أو تقصير زمن التوقف للتغيير من منتج لآخر يجعلنا نستطيع أن نُنتِج بدفعات صغيرة جدا، وأن نشتري طلبيات صغيرة جدا. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو هل يمكن تقليل زمن الإعداد إلى العشر؟ وهل يمكن تقليل تكلفة الطلبية إلى العشر؟ الحقيقة نعم ربما إلى واحد على عشرين أو واحد من مائة فتويوتا استطاعت تقليل زمن التغيير من أيام إلى دقائق.
2- التكلفة الكلية تشمل تكاليف أخرى:
إن هذه المعادلة لا تأخذ في الاعتبار تكاليف أخرى مثل تكلفة انتظار العميل لفترة طويلة حتى يحصل على طلبه، فعندما يزيد حجم دفعة الإنتاج فإن العميل لو طلب منتجا آخر غير متوفر في المخزون فسيكون عليه أن ينتظر حتى نتفضل بتغيير خط الإنتاج إلى المنتج الآخر، وهذا العميل قد يتحدث مع الآخرين عن سوء الخدمة لدينا مما يؤثر على سمعتنا في السوق، وقد يتركنا ويذهب لمنافسينا.
كذلك لا تشتمل المعادلة على تكلفة عدم القدرة على تحديد موعد التسليم بدقة. إن زيادة حجم الطلبية يعني أننا سننتج نفس المنتج لمدة أيام ولنقل 5 أيام وإذا حدثت مشاكل قد نصل إلى سبعة أو ثمانية أيام، بينما عند إنتاجنا لنفس المنتج لعشر ساعات مثلا فإذا حدثت مشكلة ستصبح 12 أو 13 ساعة أي أن الخطأ في تحديد المواعيد سيصبح أقل كثيرا عند تصغير حجم دفعة الإنتاج، ففي الحالة الاولى سنقول إننا سننتج المنتج التالي بعد 5 إلى 8 أيام، بينما في الحالة الثانية سنقول أننا سننتج المنتج التالي بعد 10 إلى 13 ساعة.
كذلك لا تشتمل المعادلة على تكلفة المنتجات المعيبة. وما علاقة ذلك بالأمر؟ إن كثيرا من أخطاء التصنيع قد تتكرر في دفعة الإنتاج كلها، فمثلا لو كان هناك خطأ ما في الماكينة فإنه سوف يُحدث عيبا في كل منتج، ولذلك فإن اكتشاف الخطأ في 10 قطع أفضل من اكتشافه بعد إنتاج 100 قطعة. أي أن زيادة حجم الدفعة يزيد من احتمالية تكرار خطأ ما في عدد كبير من المنتجات.
لا تلتفت المعادلة إلى المرونة التي توفرها قدرتنا على إنتاج دفعات صغيرة بحيث يمكننا أن نغير خطط الإنتاج طبقا لطلبات العميل في أي وقت. هذه المرونة لا تتوفر بالمرة في حالة الإنتاج بدفعات كبيرة.
ولا تأخذ المعادلة في الاعتبار تكلفة عدم كفاءة العملية الإنتاجية نتيجة لتوفر مخزون كبير من المنتجات نصف المصنعة، فإن توفر كم هائل من هذا المخزون يجعل حدوث مشاكل في مراحل الإنتاج الأولى أمرٌ غير مهم لأن مراحل الإنتاج التالية لن تتوقف وبالتالي لن تأخذ هذه المشاكل قدرا كبيرا من الاهتمام والبحث عن حل جذري. ونفس الأمر ينطبق على مشاكل الجودة حيث يتسبب وجود مخزون كبير من المنتجات نصف المصنعة في التساهل مع أخطاء الجودة مما يتسبب في تكرار حدوثها.
إن الإنتاج بدفعات صغيرة لا يجعلنا في حاجة لطلب تشغيل منتج نصف مصنع قبل آخر، بعكس الوضع عند الإنتاج بدفعات كبيرة فإنه نتيجة لتأخر التسليم للعميل فإننا سنضطر أن نطلب تشغيل منتج قبل آخر. وهذا جزء من الفوضى الناجمة عن الإنتاج بدفعات كبيرة حيث يصبح ترتيب المخزون أمرا صعبا، وتعرضه للتلف نتيجة الارتطام أو السقوط أمرا أكثر احتمالا، وتعرضه للضياع والاختلاط بآخر أمرا واردا.
وعلينا أن ننتبه أن نفس الأمر ينطبق على النقل من مرحلة لمرحلة بدفعات صغيرة، وتسليم العملاء بدفعات صغيرة وبالطبع الشراء بدفعات صغيرة. فكما ننتج بدفعات صغيرة فإن ننقل المنتج من مرحلة لأخرى بكميات صغيرة. وتطبيق هذا الأمر لابد أن يتم بشكل تدريجي يتماشى مع تطبيق عناصر نظام تويوتا الإنتاجي الأخرى مثل الصيانة الإنتاجية الشاملة وحلقات ضبط الجودة وتقصير وقت التجهيز.
كما ترى فإن الاعتقاد بأن زيادة حجم دفعة الإنتاج أو طلبية الشراء هو دائما الحل الأفضل إنما هو اعتقاد غير صحيح ينجرف وراءه كثيرٌ من الناس مما يفقدهم الكثير من مميزات الإنتاج على دفعات صغيرة. ولو حاولت أن تقلل من حجم دفعة الإنتاج فستكتشف أمرا غريبا وهو أنه يمكنك أن تنتج منتجات متنوعة في كثير من الأحيان دون أي تغيير يُذكر في خط الإنتاج، ولكن الرغبة في الإنتاج بدفعات كبيرة يجعلنا لا نفعل ذلك.
من مراجع الموضوع:
Competitive Manufacturing Management,John Nicholas, Irwin McGraw-Hill, 1998
موضوعات ذات صلة:
الإنتاج ذو القطعة الواحدة – التطبيق في مجال الخدمات
اسأل الله أن يبارك فيكم … ويزدكم من فضله خيرا كثيرا ؟
ازيك يا ريس اخبارك اتمنى ان تكون بخير اسف للانقطاع طول تلك الفترة اليست لديك الرغبة فى زيارة الولايات المتحدة العلى القاك هناك
تحيتي وأرجو أن تكون بخير حال
شكرا