واستمر المدير في قراءته للحديث، مستمتعا بهذا الكنز، ومستنيرا بذلك النور، ذاكرا لأخطائه، عازما على تصحيحها، متخذا من قراءته دليلا لإدارته.
وقرأ حديث “آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان” وتذكر ما يكون بينه وبين العاملين من حديث فيكذب تارة، ويعِدُ كذبا تارة، وما يكون بينه وبين مديريه فيكذب ليُخفِي عيوبه، ويَعِدُ بالتنفيذ ثم لا يُنفِّذ. وقال مالي وللمنافقين؟ كيف لا أنتبه إلى سوء هذا الخلق وإلى أن الكذب هو الكذب في أي تعامل، وإلى أن الخُلفَ في الوعد هو من علامة المنافقين. وتذكر تقارير مطولة ومفصلة يقوم بتزيينها والتغيير في أرقامها لكي يبدو هو مديرا رائعا، ومهندسا عبقريا. حزن على حاله حزنا شديدا، ولكنه كان قوي العزيمة فقرر أن يدع الكذب من تلك اللحظة، وبالفعل صار يجاهد نفسه عندما يتحدث مع مرؤوسيه أو مديريه أو زملائه فلا يقول إلا الصدق ولو كان على نفسه، وصار لا يُصدِر إلا تقارير معبرة عن الواقع ولو كان مُرَّا.
وقرأ حديث “بينا رجلٌ يمشي فاشتدَ العطشُ، فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يأكل الثرى من العطش، فقال لقد بلغ هذا مثلُ الذي بلغَ بي، فملأَ خُفَّه ثم أمسكه بفيه ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له” وتوقف المدير عن هذا الحديث وتذكر كيف أن بعض العمالة المؤجرة في مصنعه لا تجد مكانا لائقا لقضاء الحاجة ولا لشرب الماء أو تناول الطعام، وقال هذا الرجل سقى الكلب فغفر الله له، وأنا لا أتيح الماء للعمالة المستأجرة، إنها لمصيبة. بل وتذكر أيضا إهماله في توفير وجبات صحية نظيفة لعمال المصنع الدائمين، وتذكر كيف أهمل شكواهم في هذا الشأن، ولم يبالِ بها. وتذكر المستوى المتدني لعلاج إصابات العاملين حيث يتم ذلك في مستشفيات متواضعة لتقليل النفقات. وفي الأيام والأسابيع التالية قام المدير بالكثير من التغييرات، فجهز دورات مياه للعمالة المؤجرة، وطلب تطوير نظام علاج المصابين، وبدأ يتناول من الطعام الذي يتناوله العمال لكي يتعرف على جودته، وقام بعد ذلك بتحسين تلك الوجبات وسط دهشة العمال من تغير حال المدير.
ومرَّ على حديث “كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته” وصار يتأمل في معنى أنه كمدير مسئول عن مرؤوسيه من مهندسين وعمَّال، وقال: لا شك أنني مسئول عن حمايتهم من الحوادث المهنية، وعن تدريبهم، وعن توفير بيئة عمل صالحة، وعن توفير أدوات العمل المناسبة. وتذكر كيف أنه عندما أصبح مديرا فرح بذلك وشعر بالفخر فحضرة المدير حضر، وحضرة المدير ذهب، وقال: لو كنت تذكرت ذلك الحديث حينها لما افتخرت ولأصابني الخوف من السؤال، فإنني لا أُسْأل عن نفسي فقط بل أنا مسؤول عن عدد من العاملين. وقرر أن يتفقد حال رعيته فيزورهم في مواقع العمل، ويتأكد من توفير وسائل السلامة، وأدوات الصناعة، ووسائل التدريب، وأماكن الراحة، وصار يعتني بتنميتهم وتدريبهم.
وقرأ حديث “ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً من كُرب الدنيا فرَّج الله عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة” وتذكر المدير حادثة مرت به حيث كان زميله يعاني من مشكلة في المصنع وطلب منه المساعدة ولكنه رفض خوفا من أن تصبح هذه عادة، وتذكر كيف كان أحد مرؤوسيه يجد صعوبة في أداء عمل ما وطلب منه المستعدة فلم يجبه، وتذكر كيف يحاول كل قسم في العمل الظهور بمظهر رائع حتى ولو كان ذلك سيؤدي لمشاكل لباقي الأقسام فكلٌ يريد تحسين مؤشرات أدائه حتى ولو كان ذلك يتعارض أحيانا مع مصلحة العمل أو مصلحة باقي الأقسام، وفي نفس الوقت تذكر أحد زملائه الذي لا يجد أحدا يعاني من مشكلة خاصة إلا ووقف بجانبه، ولا يجد أحدا يعاني من مشكلة في العمل إلا وساعده. وظلّ يتأمل قليلا ثم قال: ما لنا لا نطبق هذا الحديث في العمل، أنسيناه، أم جهلناه، أم تصورنا أنه يُطبَّق في المساجد فقط وفي نطاق العائلة فقط، أليست معاناة زميلي مهندس الصيانة الكهربية من مشكلة عويصة هي كربة من كرب الدنيا، أليس توقف أحد المعدات كربة من كرب الدنيا للمسئول عن تلك المُعدة، أليس رفضي للمساعدة هو جهلٌ محض، أليست هذه “حاجة أخيه”، يا لسفاهتي إذ أضعتُ فرصا عظيمة ليكون الله في حاجتي ويفرج عني كُرَب من كُرَب يوم القيامة. وقرر المدير أن يتغير وأن ينقل نفس المفهوم لمن حوله، فصار بعد قليل لا يتأخر عن مساعدة أحد في مشاكل العمل، ولا يتأخر عن نقل خبرته لأحد، وصار زملاؤه يتعجبون من ذلك التغير وهو يقول في نفسه “صلى الله عليه وسلم”.
وأما حديث “اتقِ دعوةَ المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب” فقد هزَّه هزاً، وأصبح يتفكر في قراراته التي اتخذها في حق مرؤوسيه من جزاءات وخصم حوافز وغير ذلك، صار يفكر هل اتخذ تلك القرارات بنية خالصة وبناء على معلومات وافية، أم تعجل فيها واتخذها في لحظة انفعال وغضب، وصار يقول يا ويلي من دعوة المظلوم. وتذكر أناسا عاقبهم بدون أن يُدرِّبَهم، وآخرين منعهم من الترقيات لكونهم لا يمدحونه. وظلّ يفكر كيف يصلح ما أفسده وقد مرت سنون، وذهب هؤلاء الناس بعيدا، وتغيرت الأحوال. ولكنه قرر أن يُغير من نهجه فيلتزم العدل، ولا يتخذ قرارات تؤثر على مستقبل الآخرين في لحظة انفعال، ولا يقوم بتقييم العاملين إلا بمعلومات صحيحة.
وقرأ حديث “إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّلَ عليه في المال والخَلْقِ فلينظر إلى من هو أسفل منه” وقال في نفسه: كيف يغيب هذا الحديث عنا حين يظل الواحد منا أسابيع حزينا لأن فلانا قد نال من الترقيات ما ينله، أو قد أصاب من السفريات ما لم يصبه هو، كيف ننسى هذا الحديث حين ننظر لكل زميل كان أوفر حظاً منا، ولا ننظر إلى كثرة كاثرة من أمثالنا لم يصيبوا ما أصبنا. وقال: ألا نرى نعمة الله، ألا نحمد الله.
وقرأ حديث “كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الترابَ يوم الخندق حتى أغمَرَ بطنه أو اغبَرَّ بطنه” وجلس المدير يتأمل الحديث وقال: النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب حتى يغمر بطنه، وأنا أمشي بين العمال كالطاووس متكبرا معجبا بنفسي، يا لقبح عملي، مالي أترفع عن الناس وعن الأعمال البسيطة. وجلس يفكر طوال الليل كيف يُطبق هذا الحديث. وبعد أيام بدأ المدير يجلس مع العمال في أماكن عملهم وصار لا يستنكف أن يناول أحدهم آلته، ويستمتع بأن يشاركهم في نظافة مكان العمل، وصار يلبس مثلهم وقد كان لا يلبس إلا البدل الأنيقة، وصار لا يكره أن تتسخ يديه بالزيوت، وأن تغبرَّ يداه.
واستمر المدير في قراءته للحديث ….
وأنت أيها القارئ الكريم، هل التمست قبسا من هذا النور؟ هل فكرت يوما في تطبيق الحديث في بيئة العمل؟ هل استمتعت يوما بقراءة الحديث؟
موضوعات ذات صلة:
السلام عليكم ورحمة الله ، والله هذا كل الصدق بما يحصل بنسبة كبيرة في الشركات ولقد مررت بتجارب كثير حيث انني لاول مرة ادخل بيئة عمل و اتصدم منهم ، لكن و بحمد الله لدينا رئيس للشركة ممتاز بمعني الكلمة والله وادعو لهو دائما بالتوفيق في حياتة ، لكن المشكلة في المدراء ليس كلهم ولكن منهم من لهم اوجه .
سامحوني علي الإطالة ولكني وجدت نفسي اتحدث عن ما بداخلي .
لكم الشكر
معظم المدراء في الشركات لا يهمه شان العامل الا من كان ولاءه للمدير مطلقا حتى ولو كان المدير مخطئا وقائمة المظلومين عموما تتالف من الصادقين الذين لا يجاملون في الحق
و الله يا باشمهندس سامح تلك السلسله اصبحت تهز الواحد هزا
و كما ذكرت لك من قبل انى ادرس الان ادارة مشاريع
و عندما ارى اى شئ يتعلق بالجوده او اخلاقيات العمل
لا اجد الا التعليق الذى كان فى مدونتك على موضوع مشابهه
ان تلك بضاعتنا ردت الينا ردا جميلا
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع . صدق رسول الله صلي الله علية وسلم